توبة سكير مقامر
بابا... أنا مريض... أرجوك يا بابا
اشترِ لي الدواء!
ويتردد صوت زوجته الغاضبة في أعماقه:
سكير.. عربيد.. مقامر!!
وأحس الدنيا تدور به إلى عالم غريب
مرعب..
جسده يتراخى فوق إفريز الكورنيش الذي يطل
على الصخور السوداء، وعيناه
تغرقان في شبه
غيبوبة يحاول عبثاً أن يفرّ منها، وسحائب ضبابية
تدنو منه... تدنو...
تدنو... وتكفنه بقشعريرة رهيبة،
وهدير الأمواج يصخب في رأسه مجنوناً يدعوه إليه
كي
يلقي نفسه إلى... وعاد الصوت الممزّق
يدوّي في صدره: سكير.. عربيد.. مقامر.. أخرج من هنا!
وتضخَّم الصوت في وجدانه وشعر بقبضة
قاسية تضغط
على عروق عنقه حتى يكاد يختنق، وخُيّل إليه أنه يهوي
إلى قعر سحيق مظلم.
وتشبث بالإفريز بقوة وعنف وتساءل:
”أهذه هي النهاية المرتقبة؟“
وهز رأسه ببطء بعد صمت مثقل حاول أن
يبدده بتنهيدة
حرّى ارتعشت بين جوانحه، فمع كل لحظة تمر يلوح له
أن حياته لم تعد
تساوي شيئاً بعد أن غرق في مستنقع
الخطيئة وارتشف الصديد المميت، وليس له سوى أن
يلقي نفسه إلى لجّة اليمّ يعانق الأمواج الثائرة لعله
يتطهر من أدرانه، ويعثر في
العالم الآخر، إن كان هناك
عالم آخر، على منقذ للنجاة. وفكر بالموت:
هذه الفجوة
التي تبتلع كل الناس بلا رحمة،
دائماً متعطشة لامتصاص الدماء، ينسلون إليها
واحداً
بعد الآخر، وبعضهم يسرعون
الخطى كما يريد أن يفعل هو..
وتراقصت على شفتيه بسمة مريرة وتمتم:
هل الموت سبيل للخلاص؟
حفرة مظلمة أبشع من الحياة وأكثر قذارة... لا...
إنه يهرب
من المجهول إلى مجهول أرهب وأكثر غموضاً...
وكأنما كلمة ”يهرب“ أثارت في نفسه
كوامن أشجان
تعذّر عليها فيما مضى أن تطفو من دهاليز أعماقه
المظلمة إلى سطح حياته؛
وبدا له أن شيئاً من
الأمس الغامض يتململ في صدره كي يتجسد
من جديد أمام عينيه...
بابا.. أنا مريض.. اشترِ لي الدواء!
وعصفت به ثورة جامحة كاد معها أن
يقفز من فوق
الإفريز إلى الصخور الناتئة فأغمض عينيه كأنه يهرب
من شبح يطارده وصرخ:
يا إلهي، متى يصمت هذا الصوت.. متى؟!
ولكن الصوت ذاته الذي كان يعذبه
اجتذبه إلى واقعه ثانية،
وفي لحظة اختصر فيها العمر كله،
رأى فيها ابنه الصغير
يحدق إليه بعينين غائرتين ووجه شاحب...
وتماثلت لمخيلته زوجته التعسة وهي ترنو
إليه وتود لو...
وعاد صوتها من جديد يصخب في رأسه.
سكير... عربيد... مقامر... اخرج من
هنا!
وخرج من البيت هائماً على وجه، يبحث
عن نفسه
الضالة في شوارع المدينة المفعمة بالحياة؛ تتراءى
له وجوه الناس كالأشباح
المبهمة التي تخطو معه
نحو الأبدية، وتتراقص في عينيه الأضواء وكأنها
تسخر منه.. وصورة
ابنه المريض لا تفارق خياله..
لقد انفق كل ما يملك على الخمرة
والقمار.. كل ما يملك!!!
كم مرة حاول أن يحرر نفسه من ربقة
الإدمان،
ويقاوم إغراء المقامرة ليبدأ حياة جديدة ترعاه فيها
زوجة وفية وأطفال
أذكياء... ولكن في كل مرة أيضاً
كانت قدماه تجرّانه إلى أحد النوادي الليلية
قريباً من
هذا المكان الذي يقف بجواره... ألا توجد قوة في الأرض
تستطيع أن تنقذه
من المصير الرهيب؟!
واقترب منه متسوِّل يمدّ إليه يداً
راجفة، فتفرس فيه
بسخرية وأراد أن يطرده، غير أن عينيه لمحتا في وجه
المتسوّل تلك
الصرخة الصامتة المتوجعة التي كانت
ترفّ فوق شفتي طفله، فغض من بصره، وانهمرت
من
عينيه دمعتان.. لو كان معه نقود لاشترى لابنه
الدواء ولَمَا ترك زوجته تنام على
الطوى..
لشد ما يتألم من تعاسته، فهو يعي حقيقة نفسه،
ويعرف أنه أعجز من أن يقاوم
رغباته التي تطغى
على إرادته وتشل تفكيره، ولكن أحداً حوله لم
يسبر غور الصراع
العنيف المتفاقم في ذاته.. لا.. لا،
ليس أمامه سوى الموت ينقذه من هذا العذاب...
وفجأة، اجتذبته خيوط خفية إلى الماضي
السحيق
فاعترته دهشة!!
هل يمكنه أن ينجو من قبضة القنوط
ويبدأ حياة جديدة؟
هناك طريق آخر سلكه ذات يوم ثم تخلى عنه لأن
إغراء الخطيئة كان
أقوى من عزيمته.. هناك طريق
الجلجثة والصليب، ولعل ما يلم به الآن عقاب
من الله
لأنه تركه.! وقطّب جبينه كأنه يفكر بعالم
جديد يتراءى له عبر غيوم قاتمة تلفّ
كيانه، وراحت
دقائق حياته الموغلة في النسيان تحتار في خياله،
وتوقظه من غفوته
التي طالت شيئاً فشيئاً.
اكتملت معالم خطوط الماضي تلوّن له اللوحة
التي كان يتوق
إليها قلبه، لقد كان إنساناً آخر،
تماماً كما يريد أن يكون الآن.
وقبل أن يجتر بقية ذكرياته مرّ به
شاب تأمّله برهة
ثم دنا منه وحيّاه.. فارتسمت على وجهه إمارات
غامضة ولم يجب... وتردد
الشاب برهة ثم قال:
- هل يمكنني أن أتحدث معك بضع دقائق؟
ولما لم يقل شيئاً تابع الشاب كلامه:
- يبدو عليك التعب يا سيدي،
هل
أستطيع أن أقدم لك أية خدمة؟
فأغمض أجفانه، وكأنه يريد أن يتحاشى
رؤية الشاب،
وبعد فترة قصيرة قال:
- إني متعب جداً،أكثر مما تظن.
- ومن منا لا يتعب يا سيدي؟!
- أجل، من منا لا يتعب، كلنا نقاسى
من هموم الدنيا
ونتذوق كأس الشقاء مترعة، غير أن المصائب تتفاوت
بتفاوت الظروف
والأحداث.
- هذا صحيح، ولكن هناك من يستطيع أن
يرفع أحمال
الناس كلها مهما تعاظمت، فترتاح نفوسهم وتطمئن قلوبهم.
وبدا له أن هذا الحديث ليس غريباً
عنه،
فلقد سمع مثله منذ زمن طويل، ولعله...
وتطلع إلى الشاب بحدة وسأله:
- أتحدثني عن المسيح؟!
- نعم، أتعرفه؟
واعتصم الرجل بحبال الصمت حتى ثقلت
على الشاب
وطأته، فهمّ أن يمضي في سبيله إلا أن الرجل قال له:
- أتعرف من أنا؟
إنني سكير.. عربيد..
مقامر..
هربت من بيتي لأنه لا مكان لي فيه وجئت إلى هذا
المكان أبحث فيه عن مخرج
أبدي يوفر عليّ مشقّة الآلام..
فمد الشاب يده إلى جيبه وأخرج نبذة
قدمها إليه قائلاً:
- اقرأ هذه النبذة، ففيها طريق الحل
لمشكلتك!
ثم تأمله بلطف، وفارقه. وظل الرجل
يحملق في الظلام
حيث غاب الشاب عن عينيه، ثم تنبه إلى النبذة التي بين يديه،
فرمقها ببعض الحيرة ثم اتجه نحو عمود مصباح الكهرباء
وجلس على مقعد حجري وابتدأ
يقرأ..وما أن لمح
العنوان حتى جفل قلبه بين ضلوعه، واتسعت
حدقتا عينيه، وندّت عن
حلقه آهة معذبة...
أيمكن أن يكون ما يراه حلماً؟ هل هذه النبذة هي
نبذته التي
كتبها حين ألقى نفسه بين ذراعي
الفادي أول مرة..؟ وراح يهز رأسه مذهولاً..
وراحت
السطور تطوف في عينيه حية نابضة،
ومع كل كلمة كانت تنفتح أمام رؤاه آفاقاً رائعة
وكأنه يقرأ شيئاً جديداً لم يخطه قلمه بالذات..
كان عنوان النبذة ”توبة سكير مقامر“...
وها هو يطالع مرة أخرى قصة حياته. وحين بلغ قوله:
”وصرخت مع بولس الرسول: ويحي أنا
الإنسان
الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت“ ترقرقت
الدموع في عينيه، وتطلع إلى
السماء المكفهرة
بالغيوم وكأنه ينفذ من خلالها بباصرتيه إلى عرش الله..
وتمتم بصوت
خاشع تائب بكلمات الآية التي أجاب
بها بولس على تلك الصرخة القائلة:
”أشكر الله بيسوع المسيح ربنا“!
واحتضن
يسوع بذراعيه ”الابن الضال“ الذي عاد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق